السر الذي يخطف أنفاسك حين تزور مسجداً أو قصراً بُني أيام العُثمانيين؛ السر الذي يأسر الضوء داخل البنايات فتجعله يتراقص بين جدرانها مُحدثاً لوحة فنية ضوئية؛ السر الدافئ المنبعث من رائحة الخشب؛ السر الذي يحتفظ بأشعة الشمس في النهار ليضيء عتمة الليل بانعاكسات خفيفة. هذا السر أو السحر ما كان إلا نتاجاً لفن تشربته أيدي صانعيه منذ طفولتهم حين نشأوا بين قطع الخشب والصدف والعاج والنحاس؛ نشأوا على حُب المهنة واحتراف ما أحبوا وعشقوا.
الأرابيسك كما أسماه العثمانيين, وقد تكون تعني الفن العربي وحقيقة هو سيّد الفنون العربية ظهر قبل قرابة 800 عام وتألق في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حيث كان العصر العثماني أزهى عصوره. يتلخص هذا الفن بكونه فن الشغل وتشكيل الخشب ويوجد بأشكال مختلفة ابتداء من البنايات العظيمة كالقبب والمشربيات والمرافع والمشرفيات وانتهاء بصناديق المجوهرات الصغيرة, مروراً بقطع الأثاث من طاولات وإيطارات خشبية و كراسي ومقابض وغيرها؛ أكثر ما يمز هذا الفن أن قطع الخشب هذه تطعّم بالعاج أو الصدف أو المعادن فتصبح تحفة فنية لا يمكن الجدل حول مدى جمالها و فخامتها.
يعتمد فن الأرابيسك على نقوش ورسومات لا نهائية لها فلسفة تعني أن لا محدودية لإبداع الخالق وأن لا نهائية الأشياء تمتد إلى ما وراء العالم المرئي؛ وأن فنان الأرابيسك ينقل روحية شكلانية تصعيدية دون استخدام الصورية التي تستخدم في الفنون المشابهة كالفن السريالي والتجريدي.
ازدهار هذا الفن يعود لانتشار الأثرياء والسلاطين الذين تنافسوا على إضفاء التفرد لقصورهم ومنازلهم؛ فحين برع به المصريون والشاميون أخذهم العثمانيون إلى اسطنبول لتزيين القصور وصناعة أثاثها؛ دقة اسلوبه هي ما يميزه حيث يعتمد على تصميم الرسومات ثم وضعها على مكان العمل بعد اختيار نوعية الخشب المراد العمل عليها؛ وكان خشب الورد والليمون هو أجود هذه الأنواع؛ وبعد صنفرة الخشب مرتين يرسم التصميم بالكربون ثم يحفر يدوياً حتى إذا ما انتهى الحفر غطي السطح بشمع العسل المخلوط بزيت التربانتين ثم يزال هذا الدهان وتطعم القطعة بالصدف أو العاج أو المعادن. والحديث عن التطعيم والتصديف يطول ويتشعب لتعدد أنواعه وطرقه.
لم يكن هذا الفن مجرد تحفة ميتة أو صندوق مركون أو جدار صامت؛ بل كان حياة وهوية؛ كان روح جمال المكان؛ كل جانب له حكاية مع صانعه الذي صنعه بحب فأهدى للكون جمالاً لن يتكرر؛ يحكي أحد صُناع الأرابيسك اليدوي في زوايا خان الخليلي عن مشاعره فيقول : (هي حاجات بتوحشك أويّ) وما أبلغ ما قاله!