لما رفع إبراهيم عليه السلام دعواته لربه أن اجعل هذا البلد آمنا؛ واجعل أفئدة الناس تهوي إليه؛ كان قبول الله لدعوته واضحاً جلياً من أن جعل البيت الحرام قياماً للناس وأمناً؛ قبل البعثة وبعد البعثة. لكن كيف كان السبيل إلى هذا البيت؟
انتشر الإسلام في أصقاع الأرض ووصل إلى أقاصي الشرق والغرب. وكان الركن الخامس من أركان الإسلام يستوجب حضور المسلم إلى بقعة واحدة. فهل كان القيام به شيئاً سهلا! أم أن الله العليم الرحيم أرفق بهذا الركن شرطاً وهو من استطاع إليه سبيلاً.
في زمن الدولة الإسلامية في الأندلس قل من قام بأداء فريضة الحج من حكامها وشعبها لما في ذلك من مخاطرة شديدة على النفس إلى جانب الطول الزمني للرحلة التي قد تصل إلى عامين. لذلك صدرت فتاوى بتحريم الحج على أهل الأندلس وإسقاطه عنهم أبرزها فتوى ابن رشد: (فمن خاطر وحج سقط فرضه ولكنه آثم بما ارتكب من الغرر).
لكن شوق القلوب للبقاع المقدسة لا يطفئه سقوط ذنب أو إعفاء عن فرض؛ هو بيت الله الذي برؤيته تُغسل القلوب. لذلك كان شد الرحال إليه من أروع الرحلات التي يسير إليها إنسان ومن أبرز من كتب عنها ابن جبير الأندلسي في القرن السادس الهجري.
رحلة الحج كانت تعني أداء فريضة و زبارة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقوف والصلاة في روضته الشريفة وقدتزيد بزيارة الأقصى المبارك؛ والطرق التي كان يسلكها حجاج الأندلس يمر أولها بالقيروان ثم الإسكندرية وثانية يأتي بحراً مباشرة إلى ساحل مصر ومنها عن طريق البحر الأحمر إلى مكة؛ أما ثالث الطرق وهو أشهرها أن يأتون بحراً إلى سواحل فلسطين حيث القدس الشريف ثم العقبة فالحجاز إلى مكة. وغالباً ما يوقتون رحبتهم ليكون رباطهم في رمضان في المسجد الأقصى ثم يتجهون إلى مكة بعد ذلك. لذلك كانوا يتباهون بحجهم بقولهم ( نعم حججنا وقدّسنا).
أما أهالي الشام فكانوا قوافل تجتمع في دمشق؛ قافلة الحج الشامي وقافلة الحج القدسي وقافلة الحج الحلبي؛ ثم تنطلق جميعها إلى المدينة المنورة ومنها إلى مكة. بالنسبة للعراقيين فقد مهدت لهم زوجة هارون الرشيد طريقاً بين الكوفة ومكة حتى صار من أكثر الطرق أماناً للحجاج والمعتمرين العراقيين أو من ما وراء ذلك من بلاد الشرق. اليمينون وعلى الرغم من قُرب بلادهم إلا أن طرقها البرية كانت شديدة الخطورة لطبيعتها الجبلية التي يختبئ فيها قطاع الطرق. فكانوا يفضلون السفر إلى مكة بحراً رغم خطورته لكنه أحلى الأمرين.
من المسلمين من ساقته أشواقه إلى مكة والمدينة وأن بعدت دياره حتى أن أحدهم خرج من بلاده وما برأسه شعرة بيضاء و لم يصل للبيت الحرام إلا ولمْ يبق برأسة شعرة سوداء؛ ومنهم من عجز جسده لكن قلبه حلق بأشواقه وفاضت قريحته بأبيات شوقاً إلى رحاب الله:
يا راحلين إلى المختار من مضر .. زرتم جسوماً وزرنا نحن أرواحا
إنّا أقمنا على شوق وعن قدر .. ومن أقام على عذرٍ كمن راحا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق